التحدي الكردي للاستراتيجية السياسية للولايات المتحدة في العراق
زمکان علي سلیم
تعتبر الإدارة الأمريكية الحالية إيران وسطوتها السياسية المتنامية في العراق وخارجه تهديدًا خطيرًا لمصالحها الخاصة ومصالح حلفائها في الشرق الأوسط. ونتيجةً لذلك، تبنّت واشنطن استراتيجيةً سياسية تتمحور حول حصر نفوذ إيران في العراق. وبغية تحقيق هذه الاستراتيجية، عزّزت الحكومة الأمريكية دعمها الدبلوماسي لرئيس الوزراء العراقي الحالي الشيعي حيدر العبادي. وبخلاف سلفه، أظهر العبادي رغبةً في الابتعاد عن الاستراتيجية الإيرانية في بلاده، سيواصل بالتالي تلقي الدعم الأمريكي، ما قد يساعده على ضمان ولاية ثانية خلال الانتخابات العامة المقررة العام المقبل.
وبولاية جديدة في المنصب الأبرز في العراق، تعتقد إدارة ترامب الحالية أنه سيكون أمام العبادي أربع سنوات اعتبارًا من عام 2018 من أجل إرغام إيران على الانسحاب واستعادة العراقيين السيطرة الكاملة على سياسات بغداد. وعليه، يعتمد نجاح الاستراتيجية الأمريكية جزئيًا على قدرة العبادي على الاستفادة من انتصارات الجيش العراقي في الآونة الأخيرة على “الدولة الإسلامية” من أجل حشد دعم انتخابي في عام 2018.
كما أن الشراكة بين الولايات المتحدة وأكراد العراق مهمة وأساسية لنجاح استراتيجية واشنطن السياسية في العراق. ومن خلال تمثيلها في بغداد منذ عام 2003، أدّت الأحزاب الكردية القومية العلمانية دورًا سياسيًا مهمًا في تصعيب فرض شيعة العراق – حلفاء إيران – سطوتهم على العراق ما بعد صدام. وفي ظل إضعاف سنّة العراق الآن وافتقارهم إلى القيادة، ترغب واشنطن في بقاء الأكراد في العراق ومضاعفة التوازن في وجه السيطرة الكاملة للأغلبية الشيعية. فضلًا عن ذلك، توقّعت واشنطن أن يعمل أكراد العراق ضمن إطار استراتيجيتها السياسية من خلال مساعدة العبادي على الفوز بولاية ثانية.
ومن وجهة نظر الولايات المتحدة، من شأن خروج الأكراد من العراق أن يُضعف العبادي بشكل أكبر ويقوّي أمثال نوري المالكي، وهو رئيس الوزراء الشيعي السابق والحليف الوفي لإيران. يُذكر أنّ روابط وطيدة تجمع بين المالكي والنظام الإيراني من جهة، وأقسام كبيرة من الميليشيات الشيعية الناشطة في المناطق العراقية المأهولة من العرب من جهة أخرى. وقد يُقدم المالكي على اتهام العبادي بأنه أضعف من أن يتمكن من مواجهة التحدي الكردي لسلامة الأراضي العراقية، كما قد يعزّز جهوده، بدعم من إيران، من أجل الإطاحة بالعبادي قبل توليه منصب رئيس الوزراء من جديد.
وبعد ان أدرك أن سعي الأكراد إلى الاستقلال سيهدّد مستقبله السياسي، قرّر العبادي اتخاذ تدابير انتقامية بحق أكراد العراق قد تؤدي إلى اندلاع صراع كردي-عربي مدمّر. وبعد مرور يوم على الاستفتاء الكردي، اتخذ العبادي خطوات – بالتنسيق مع تركيا وإيران – يعتقد أنها ستضيّق الخناق على أكراد العراق من الناحية الاقتصادية وتعزلهم عن باقي العالم. كما طالب البرلمان العراقي، ذو الأغلبية الشيعية، أن يرسل العبادي قوات عراقية اتحادية لاستعادة سيطرة حكومة العراق المركزية على حقول النفط في كركوك الخاضعة حاليًا لسلطة “حكومة إقليم كردستان”. وطالبت حكومة العبادي أيضًا نظيرتها في الإقليم بتسليم المطارين الدوليين والمعابر الحدودية مع تركيا وإيران إلى السلطات المركزية العراقية.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا النوع من ردود الفعل من جانب بغداد، في محاولة لإخضاع القيادة الكردية العراقية عبر فرض حظر اقتصادي ودبلوماسي قاسٍ عليها، قد يتسبب باندلاع حرب كردية-عربية ستسمح من دون شك بتنامي نفوذ إيران في العراق. ومن المستبعد أن تتمكن القوات العراقية الاتحادية من محاربة “البيشمركة” الكردية بمفردها، ما سيحفز في نهاية المطاف تولي الميليشيات الشيعية محاربة أكراد العراق. وفي المقابل، من شأن دور عسكري أكبر للميليشيات الشيعية – المسلحة والمدربة والممولة من إيران – أن يعني اعتمادًا أكبر للسلطات العراقية على إيران. ولهذه الأسباب عمومًا، اعترضت الحكومة الأمريكية على الاستفتاء الكردي بشأن الاستقلال.
لكن ماذا كانت الولايات المتحدة تتوقع من أكراد العراق؟ تجاهل صناع السياسة في واشنطن تطلعات الأكراد للحصول على دولة وافترضوا خطأً أن القادة الأكراد سيتقبلون على الدوام فكرة أن دولة كردية لن تقوى على مواجهة الوقائع القاسية في الشرق الأوسط، لا سيما عند تلقّي هذه الدولة معارضةً شديدة من قوى إقليمية أكثر نفوذًا على غرار تركيا وإيران. فإنّ ترْك الأكراد لأقدارهم – لأنهم تجاهلوا نصيحة واشنطن في ما يخص الاستفتاء – سيقوّض نفوذ الولايات المتحدة في العراق وخارجه على المدى الأطول.
فهل ستكون الحرب بين الأكراد والعرب محتمة في العراق؟ ليس بالضرورة. فلا تزال الولايات المتحدة تتحكم بشكل كبير بسياسات الحكومة العراقية و”حكومة إقليم كردستان”. وفي الوقت الراهن، على واشنطن توظيف آليتها الدبلوماسية لطمأنة السلطات في بغداد وتشجيعها على عدم معاقبة الأكراد العراقيين بسبب تصويتهم في استفتاء الاستقلال. ويجب أن تعيد الولايات المتحدة تذكير بغداد بأنه لن ينتج عن كافة التدابير التي اتخذتها الحكومة بحق “حكومة إقليم كردستان”، بما فيها فرض حظر اقتصادي وتجميد الرحلات من وإلى “كردستان العراق”، سوى تأكيد مخاوف القادة الأكراد من أن الحكومة المركزية العراقية تعتبر الأكراد أعداءً لها وتسعى إلى إيذائهم عمدًا. فالتدابير العقابية التي اتخذتها بغداد ضد “حكومة إقليم كردستان” ستبرّر أي إعلان مفاجئ وأحادي لاستقلال إقليم كردستان عن العراق، ما سيشرّع حتمًا الباب أمام إيران للاضطلاع بدور أكثر عدائيةً في العراق.
وعلى بغداد أيضًا أن تفهم أن استعادة الأراضي المتنازع عليها من الأكراد بالقوة ستكون غير واقعية ومحفوفة بالمخاطر. فاستخدام السلطات الشيعية القوة في الماضي ضد العرب السنّة أدّى إلى ابتعادهم عن بغداد وإلى ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية” في ما بعد. ويجب ألّا يغيب عن بال بغداد أنها لن تحظى بدعم الولايات المتحدة في حال قررت استعادة كركوك وحقولها النفطية بالقوة. ولا بدّ للولايات المتحدة من استخدام بعض من قوتها العسكرية في العراق للحدّ من فرص اندلاع اشتباكات عنيفة بين الجيش العراقي وقوات “البيشمركة” الكردية.
التصعيد الأخير حول مدينة كركوك يوضح مدى خطورة الوضع حاليا. فردا على تكديس القوات العسكرية العراقية والميليشيات الشيعية في جنوب كركوك، أرسلت حكومة إقليم كردستان ستة آلاف مقاتل من البيشمركة إلى المدينة لتعزيز موقفها ضد أي هجوم محتمل من قبل القوات الموالية لبغداد. وعلى الرغم من أن العبادي صرح مرارا بأنه لن يستخدم القوة ضد المواطنين الأكراد العراقيين، الا ان مسؤولين في حكومة إقليم كردستان فسروا التصعيد حول كركوك على انه استعداد من قبل بغداد لشن هجوم مفاجئ لاستعادة السيطرة على كركوك وحقول النفط. إن تحقيق انتصار سريع وحاسم في كركوك سيدعو الأكراد المتشددين في الشرق الأوسط إلى الانضمام إلى الأكراد العراقيين. كما أن الصراع الناتج يمكن أن يشجع الشيعة الراديكاليين في إيران وسوريا ولبنان على المجيء إلى العراق ومحاربة الأكراد هناك.
ولن يلغي فوز العبادي بولاية ثانية نفوذ إيران في العراق، حتى ولو تخلى الأكراد عن مساعيهم للاستقلال وقرروا دعمه. فالنظام الإيراني يقدّر مكاسبه في العراق ويسيطر على نظام من الحلفاء يشمل ميليشيات مسلحة وشخصيات دينية وسياسية شيعية نافذة. وتبسط طهران سلطتها على بغداد، كما أنها القوة الأجنبية الأكثر نفوذًا في البلاد. وبالتالي، تُعتبر محاولة الحدّ من نفوذ الجمهورية الإسلامية في أوساط الأغلبية الشيعية في العراق رهانًا خاسرًا. إن فرض حصار منسق على كردستان العراق من قبل بغداد وأنقرة وطهران، يليه هجوم على الأكراد العراقيين على يد الميليشيات الشيعية، سيهدد بقاء حكومة إقليم كردستان ويضعف في المقابل نفوذ واشنطن في العراق، إن لم يكن قد ضعف بالفعل. وعليه، يتعين على الولايات المتحدة مواصلة العمل مع أكراد العراق لمنع سيطرة إيران المطلقة في المنطقة.